• مقدمة
عندما ابدأ بالحديث عن ايطاليا لا اجد وصفاً دقيقاً اعبّر به عنها ، زرقاء كـ سماء الرب مثل لون البحر حيث دائماً يكون لقاء العشاق ، عاصمة الفن والجمال ، مهد الكرة و تاريخها ، عندما تكون عاشقاً وجهتك الاولى ستكون الى فينيسيا حيث يكمن الجمال هناك ، وان لم تكن كذلك ربما الى فيرونا حيث تحتضن الجدران قبلات جولييت و روميو ، ان كنت مهووساً بالموضه سترحل الى موطنها هناك في ميلانو ، وان شذيّت عن الطبيعه ، هناك في صقلية موطن المافيا و اصلها ، وان كنت من عشاق السيارات والسرعة ستجد قصصك في كتاب الفيراري وعلى لوحة اللامبورغيني ، وان كنت من عشاق الكرة ، انت حتماً تسير في الاتجاه الصحيح ، حيث تواجد مارادونا معجزة كرة القدم ، وفان باستن عظيم البرتقاليين ، وان كنت من عشاق التراث والتاريخ ، سأدع لك برج بيزا والكولوسيوم ينفضون عن جدرانهم غبار الزمن ، ليحكوا لك قصةً لا زالت عالقة في الاذهان ، ايطاليا يا من احببتها صغيراً و عشقتها كبيراً ، يا جنة الله في ارضه ويا جحيم القلوب في بُعدها ، كلما ابحرت بخيالي وبحثت عن موطن ، وجدتني اضع المرساة على شواطئكِ معلناً انتمائي لهذا الوطن الجميل !
• فضيحة و فساد !
في 2006 هزّت ارجاء المعمورة فضيحة كبيرة اسمها الكالتشيوبولي ، حيث التلاعب بالنتائج و شراء الذمم ، حيث اللعب من تحت الطاولات ، حيث سقوط السُمعة امام انظار العالم ، انها ايطاليا بلد الفساد ، بلد لا يعرف الطهاره ، بلد وُصف من قديم الازل بالغوغائية والتملق ، بإزدراء الوجوه حيث تسمع امراً و ترى غيره ، هذا ما كان يتردد على مسامعنا ، هكذا كانوا يقولون!
قبل ايامٍ معدودة من كأس العالم الموعود ، ايطاليا تخرج بفضيحة امام الجميع ، لا احد يرشحها ، لا احد يحترمها ، لا احد يُعرها اي اهتمام ! بلاد كرة القدم لا تحظى بما تستحق ولكن ربما تلك الفضيحة كانت سبباً في ذلك ، لكن لا احد كان يدرك او ربما تناسوا ان ايطاليا لا تتأثر بأي ظروف ، من عاش على كرة القدم قبل مائه و هوائه ، لا يمكن ان يتنفس شيئاً سوى كرة القدم !
• ما قبل المونديال
ليست فضيحة الكالتشيوبولي هي كل شيء ، ايطاليا تعاني ايضاً من فقدان احد اهم عناصرها و هو فرانشيسكو توتي الذي تعرض لاصابه خطيره في فبراير اي قبل انطلاق المونديال بأربع اشهر فقط ، اجرى عمليه حينها تخللت عملية زرع صفائح معدنيه في قدمه مما جعل امر استدعائه لبرلين امر اشبه بالاستحالة !
مارتشيللو ليبي مدرب الاتزوري حينها ذهب الى فرانشيسكو في المستشفى حيث اجرى العملية الجراحية والتي تكللت بالنجاح ، كان يعلم ان نفسيه اللاعب شبه محطمة لانه اقتنع تماماً انه فقد حلم الذهاب الى برلين واللعب في كأس العالم ، ولكن بعبقريه المدرب الناجح داهن عليه وطمأنه ، وبمجرد ما ان إلتقى به حتى قال له " فرانشيسكو كيف تبدو اليوم ، تفكر بكأس العالم؟ ستذهب الى هناك ، حتى وإن كنت بساقٍ واحدة ، ستذهب الى برلين وستلعب في كأس العالم " ..
لك ان تتخيل عزيزي القارئ ، كيف سيكون شعور فرانشيسكو حينها بعد سماع هذه الكلمات من مدربٍ عظيم مثل مارتشيللو؟ نسبة السعادة والتفاؤل عند توتي بعد هذه الكلمات ارتفعت الى عنان السماء ، والمحصله انه خلال اربع اشهر فقط من العملية التي تبعها نظام تأهيلي للعودة الى الملاعب ودون جاهزية تامة اصبح توتي جاهزاً ولحق بركب المنتخب الذي سيذهب الى برلين !
• بداية المشوار
اللقاء الافتتاحي كان ضد غانا ، بدأ مارتشيللو ليبي اللقاء بخطة 4-3-1-2 ، كالعادة بوفون في حمايه العرين ، وفي قلبيّ الدفاع حضرت ثنائيه كانافارو و نيستا اما الاظهره كانوا زاكاردو و غروسو ، في دائرة المنتصف تواجد بيرلو وعلى يمينه ويساره كان هناك دي روسي و غاتوزو كحواجز دفاعيه ، توتي بدأ اللقاء من الدقيقه الاولى في مركز صناعه اللعب خلف لوكا توني و جيلاردينو ولكنه غادر مصاباً في الشوط الثاني ليحل محله كامورانيزي ، غانا لم يكن بالفريق السهل حيث كان يتمتع بالحيوية في الملعب مع سرعة نقل الكرة وكذلك يتمتع ببعض الحلول الفرديه مثل التسديدات القوية والمتقنه لمونتاري و ايسيان واستغلال سرعة اسامواه جيان في الهجمات المرتدة ، ايطاليا ادركت قوة غانا في اللعب السريع مما جعل ليبي يعتمد على دفاع الخط الواحد واغلاق المساحات كلما سنحت الفرصه ، ايطاليا حاولت التسجيل بشتى الطرق لكن كينغستون حارس غانا كان رجل المباراه الاول بلا منازع حيث قدم مباراه العمر ، آخر حلول ايطاليا كانت التسديد من بعيد كان حل ضعيف ولكنه نجح ، بيرلو يسدد كرة قويه من خارج المنطقة لتستقر في الشباك ، الامل عند الافارق هبط ولكنه لم يختفي ، ليعود بيرلو من جديد ويضربهم بالمرتدة حيث يستقبل ياكونتا الذي دخل بديلا لجيلاردينو وينفرد بالحارس ويضعها في الشباك لينهي المباراه بثنائية نظيفه .
• اللقاء الثاني
اللقاء الثاني كان ضد امريكا ، ايطاليا دخلت بمعنويات كبيرة خصوصاً بعد الفوز الافتتاحي ، لكن الضغط في هذا اللقاء كان هائل ، كل شيء تقريباً انتهى في الشوط الاول ، بيرلو من جديد يثبت ثقله في الملعب ويصنع الهدف الثاني له في المونديال بلقطة تكررت كثيراً في هذه البطوله ، عرضية من ركلة ثابته تقابلها رأسية جيلاردينو التي لم ترحم الشباك الامريكيه ، وبعد خمس دقائق بالضبط امريكا تعادل النتيجة عن طريق هدف سجله زاكاردو لي مرماه ليعيد الامل للامريكان ، وبعد دقيقة واحدة فقط من هدف امريكا يُطرد دانييلي دي روسي بالبطاقة الحمراء بعد تدخله بالكوع على اللاعب الامريكي مما صعّب الامور على ليبي وعلى اللاعبين ، وحتى النهايه لم يتغير شيء ، الوضع استمر على ماهو عليه ، دانييلي تم ايقافه أربع مباريات مما يعني انه لن يلعب مرة اخرى الا في النهائي ، وقتها ذهب بوفون الى دي روسي الذي أنّب نفسه كثيراً على هذا التصرف قائلاً له " لا تقلق ، ستلعب في النهائي " ..
• ما قبل الاقصائيات
اللقاء الاخير قبل الوصول للمراحل الاقصائية كان ضد التشيك ، ايطاليا اضاعت الكثير من الفرص خصوصاً من قِبل انزاغي ، نيدفيد كان احد ابطال اللقاء لكن زميله بوفون كان له بالمرصاد كلما وجد باباً اغلقه بوفون في وجهه ، افتتاح الاهداف كان عبر ماتيراتزي برأسية قوية أرسلها له توتي ، استمر اللقاء حامي الوطيس فرٌ و كر بين المنتخبين ، الا ان حانت اللحظه قبل النهاية بثلاث دقائق ، بيروتا يرسل كرة عبقريه لانزاغي الذي انفرد بالحارس ثم وضعها بالشباك لتفوز ايطاليا بثنائية تظيفه وتعبر للدور الـ 16 لمواجهة استراليا ..
• بدايه مراحل الحسم
هذا اللقاء شهد الكثير من التوتر والشد والجذب ، شوارزر اعاد للاذهان سيناريو كينغستون حيث كان يتصدى لكل شيء ، وفي المقابل بوفون يبادله التحية بذات الاسلوب ، كل فريق يفكر كيف ينهي اللقاء ويعبر للدور المقبل ، ايطاليا لم تهدر الكثير من الفرص بل على العكس تماماً ، شوارزر هو من كان يوقف المهاجمين بشتى الوسائل ، ما زاد من امور ايطاليا تعقيداً هو طرد ماتيراتزي في الدقيقة 50 مما خلق المتاعب للاتزوري ، كل شيء استمر على ماهو ، حتى حانت لحظة تمريرة توتي الحريرية في آخر ثواني اللقاء لغروسو الذي توغل الى مناطق الخصم ثم تعرض للاعاقة مما جعل الحكم يصفر ويحتسبها ركلة جزاء ، توتي أقدم عليها بشجاعة ، كل آمال ايطاليا معلقة بهذه الركلة ، الجميع يؤرقه السيناريو وينتابه القلق ، لدرجة ان بوفون ادار ظهره لرفاقه ، لا يريد ان يرى ما سيحدث ، توتي يتقدم ويسدد ليسكنها في شباك شوارزر اعلى الزاويه اليسرى لتتأهل ايطاليا للدور المقبل ..
• استمرار الامل
في الدور ربع النهائي ايطاليا تواجه شيفتشينكو و رفاقه ، لا مجال للتخاذل ، لا مجال للتهاون ، الجدية في العمل هو كل ما يُطلب من اللاعبين وهذا بالفعل ما حدث ، البدايه كانت سريعه جداً ، في الدقيقه الخامسة يصنع توتي الهدف الاول الذي سُجل بأقدام زامبروتا ، ثم توالت فرص الاوكران ولكن بوفون كان لها بالمرصاد ، اجمل لقطات اللقاء كانت بريشه بوفون في الدقيقه 50 ، حيث كانت الكرة تتوجه للشباك انقذها في الامتار الاخيره بكل شجاعة واستبسال مما اسفر عن ارتطام رأسه بالقائم ، لم يبالي ابداً ان يتعرض لاصابه كل ما يهمه هو ان يحافظ على عذريه شباكه ، في الدقيقة الـ 59 توتي يعود لصناعة الهدف الثاني بكرة ارسلها الى لوكا توني الذي لم يتوانى عن وضعها في الشباك لتقترب بطاقة التأهل اكثر من ايطاليا ، وبعد عشر دقائق فقط ايطاليا تقضي على احلام اوكرانيا بعد ان اشترك مسجليّ الاهداف بالهدف الاخير ، زامبروتا يصنع و لوكا يسجل ، لتعبر ايطاليا الى نصف النهائي لمواجهه المانيا المستضيف !
احد اصعب المباريات واجملها في البطوله ، ايطاليا تواجه المانيا المستضيف ، الخصم مطالب بالانتصار من اجل العبور للنهائي خصوصاً وان البطولة على ارضه ومطالب ايضاً بتحقيقها لتجاوز ايطاليا الدي يحمل ذات السجل معه في نفس البطوله ، لقاء كان اشبه بالملحمة ، امتد حتى الاشواط الاضافيه ، لقاء استبسل فيه كل لاعبي الاتزوري ، بذلوا كل شيء من اجل خطف بطاقه العبور ، تشرف فيه قميصهم بتعرّقهم الذي بُذل في سبيل تحقيق الانتصار ، حتى الاشواط الاضافيه والكفة متساويه ، الا ان جائت اللحظة الحاسمه ، بيرلو يمرر لغروسو الذي ارسل الكرة كالسم القاتل والسهم الخارق لتستقر في شباك ليمان ، لم يتبقى على النهايه الا القليل ، لكن ايطاليا لم ترتضي ذلك فحسب ، كانافارو بتدخل اسطوري يقطع الكرة برأسه ويضعها تحت اقدام توتي ، توتي يرسلها سريعاً الى جيلاردينو الذي تلاعب بالدفاع ومررها لديل بييرو الذي حطّم آمال الالمان بهدف غايه في الروعه ، الملعب يمتزج بالمشاعر ، من جانبٍ تحتفل الجماهير الايطاليه وتردد فورزا اتزوري ، افانتي ايطاليا ، وجانبٍ آخر فيه الدموع الالمانيه تجرى بحُرقة ، انتهى الحلم ، ايطاليا الى النهائي !
الحلم يقترب ، والامال تزداد ، ايطاليا تواجه زيدان ورفاقه ، تنطلق صافرة الحكم وما ان تصل الى الدقيقة الخامسة حتى يُعرقَل مالودا من قبل ماتيراتزي ، الحكم يصفر وركلة جزاء للديوك في اول خمس دقائق! سيناريو لم يكن في الحسبان ، يتقدم لها زيدان ويضعها بكل ثقه بطريقة بانينكا في شباك بوفون ، سيناريو كان محبط للطيان ، يستمر اللقاء بين شدٍ وجذب ، وتستمر ايطاليا بالحلم على امل التعويض ، لا يمكن لهذا التعب ان يضيع سُداً ، وبعد اقل من ربع ساعه ، تعود ايطاليا لاجواء اللقاء بعد هدف سجله ماتيراتزي عبر ركنيه ارسلها اليه بيرلو ، النقطة المفصليه كانت بطرد زيدان و نطحنه الشهيره ، اهم عنصر في فريق الخصم يُطرد ، امر يزيد من حظوظ الطليان ، استمر اللقاء حتى وصل الى الركلات الترجيحيه ، الطليان كانوا على قدر المسؤوليه ، تتوالى الاهداف واحد تلو الاخر ، حتى وصلت الى غروسو ، يتقدم لها ، يسدد ويضعها في الشباك ، ايطاليا سيّدة العالم ، ايطاليا تتربع على عرش الكرة العالميه !
بوفون كان قد وعد دي روسي في المجموعات بعد طرده ضد امريكا وايقافه اربع مباريات انه سيلعب النهائي وفعلاً وفى بعهده ولعب دي روسي النهائي وسجل احد الركلات الترجيحية ، وعدت فوفيت كما هي عادتك يا جيجي !
ايطاليا من بلد مليء بالفساد ، من بلد محارب من الجميع ، من بلد مُحتقر وخارج الحسابات ، يجعل الالسن تتحدث كما تشاء ويكتفي فقط بالردود عليهم في الملعب ، نحن اليوم اسياد العالم بفسادنا ، وفشلنا ، وسمعتنا السيئة ، وانتم اليوم فقط تتحدثون وتتفرجون علينا ونحن نصعد المنصة ونتوّج بالذهب ، هكذا اعتدت على ايطاليا ، عظيمة لا تكترث بالعواصف والزوابع ، هكذا اعتدت على ايطاليا عظيمة دائماً في المناسبات الكبرى ، حتى وهي تحتضر تبرهن على كبريائها ، كعادة الكبار يمرضوا ولكن لا يموتوا ابداً ، دُمتِ عظيمة يا مهد كرة القدم ، ودُمتُ لكِ عاشقاً لا يعرفُ طعم الخيانه !